سورة النساء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} قد مضى في البقرة اشتقاق {النَّاسِ} ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للإعادة وفي الآية تنبيه على الصانع.
وقال: {واحِدَةٍ} على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر. ويجوز في الكلام من نفس واحد وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام، قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة {واحد} بغير هاء. {وَبَثَّ} معناه فرق ونشر في الأرض، ومنه: {وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وقد تقدم في البقرة. و{مِنْهُما} يعني آدم وحواء. قال مجاهد: خلقت حواء من قصيرى آدم.
وفي الحديث: «خلقت المرأة من ضلع عوجاء»، وقد مضى في البقرة. {رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} حصر ذريتهما في نوعين، فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في البقرة من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها.
الثانية: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين. و{الَّذِي} في موضع نصب على النعت. و{الْأَرْحامَ} معطوف. أي اتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقرأ أهل المدينة {تساءلون} بإدغام التاء في السين. وأهل الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تاءين، وتخفيف السين، لأن المعنى يعرف، وهو كقوله: {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ} و{تُنَزَّلَ} وشبهه. وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة {الأرحام} بالخفض. وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه، قال النحاس: فيما علمت.
وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض، لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه.
وقال جماعة: هو معطوف على المكني، فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل:
سألتك بالله والرحم، هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي. وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض، كقوله: {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ} ويقبح مررت به وزيد. قال الزجاج عن المازني: لان المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز مررت بزيد وك كذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر، كما قال:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا *** فاذهب فما بك والأيام من عجب
عطف الأيام على الكاف في بك بغير الباء للضرورة. وكذلك قول الآخر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا *** وما بينها والكعب مهوى نفانف
عطف الكعب على الضمير في بينها ضرورة.
وقال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس.
وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ {ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} و{اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} لأخذت نعلي ومضيت. قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في اصول أمر الدين، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تحلفوا بآبائكم» فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم. ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وإنه خاص لله تعالى. قال النحاس: وقول بعضهم {والأرحام} قسم خطأ من المعنى والاعراب، لأن الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَة يدل على النصب.
وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة، فرأيت وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغير لما رأى من فاقتهم، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} إلى: {وَالْأَرْحامَ}، ثم قال: «تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره» وذكر الحديث. فمعنى هذا على النصب، لأنه حضهم على صلة أرحامهم. وأيضا فقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». فهذا يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى: {تَسائَلُونَ بِهِ} يعني تطلبون حقوقكم به. ولا معنى للخفض أيضا مع هذا.
قلت: هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة {والأرحام} بالخفض، واختاره ابن عطية. ورده الامام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرابها أئمة القراء ثبتت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن رد ذلك فقد رد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر، لأنه عليه السلام قال لابي العشراء: «وأبيك لو طعنت في خاصرته». ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه. قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم، كما تقول: افعل كذا وحق أبيك. وقد جاء في التنزيل: {وَالنَّجْمِ}، وَالطُّورِ، وَالتِّينِ، لعمرك وهذا تكلف.
قلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون {والأرحام} من هذا القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه. والله أعلم.
ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسما. والعرب تقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلا ببين غرابها
فجر وإن لم يتقدم باء. قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه. ومنه قوله:
آبك أيّه بي أو مصدّر *** من حمر الجلة جأب حشور
ومنه:
فاذهب فما بك والأيام من عجب ***
وقول الآخر:
وما بينها والكعب غوط نفانف ***
ومنه:
فحسبك والضحاك سيف مهند ***
وقول الآخر:
وقد رام آفاق السماء فلم يجد *** له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
وقول الآخر:
ما إن بها والأمور من تلف *** ما حم من أمر غيبه وقعا
وقول الآخر:
أمر على الكتيبة لست أدري *** أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها مجرور الموضع بفي. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى: {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} فعطف على الكاف والميم. وقرأ عبد الله بن يزيد {والأرحام} بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء، لأن من العرب من يرفع المغرى. وأنشد الفراء:
إن قوما منهم عمير وأشبا *** هـ عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا قا *** ل أخو النجدة السلاح السلاح
وقد قيل: إن {وَالْأَرْحامَ} بالنصب عطف على موضع به، لأن موضعه نصب، ومنه قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ***
وكانوا يقولون: أنشدك بالله والرحم. والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا.
الثالثة: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة. وقد صح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي: «نعم صلي أمك» فأمرها بصلتها وهي كافرة. فلتا كيدها دخل الفضل في صلة الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوى الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم، وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر». وهو قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق. ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول- أنه مخصوص بالآباء والأجداد.
الثاني- الجناحان يعني الاخوة.
الثالث- كقول أبي حنيفة.
وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته. والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي. وأحسن طرقه رواية النسائي له، رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه». وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن النسائي قال في آخره: هذا حديث منكر.
وقال غيره: تفرد به ضمرة. وهذا هو معنى المنكر والشاد في اصطلاح المحدثين. وضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. والله أعلم.
الرابعة: واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة. فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث.
وقال شريك القاضي بعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه، واحتجوا بقوله عليه السلام: «لا يحزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه». قالوا: فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك، ولصاحب الملك التصرف. وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع، فإن الله تعالى يقول: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه، فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث: «فيشتريه فيعتقه»، أو لأجل الإحسان عملا بالآية. ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه. وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه. وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالْأَرْحامَ} الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة، ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام. فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند. وهم يرون ذلك نسخا، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات. والله أعلم.
السادسة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي حفيظا، عن ابن عباس ومجاهد. ابن زيد: عليما.
وقيل: {رَقِيباً} حافظا، قيل: بمعنى فاعل. فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب: الحافظ والمنتظر، تقول: رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت.
والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه الرقيب. والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء.. ويقال: إن الرقيب ضرب من الحيات، فهو لفظ مشترك. والله أعلم.


{وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)}
فيه خمس مسائل: الأولى قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما، كقوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} ولا سحر مع السجود، فكذلك لا يتم مع البلوغ. وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتيم أبي طالب استصحابا لما كان. {وَآتُوا} أي أعطوا. والإيتاء الإعطاء. ولفلان أتو، أي عطاء. أبو زيد: أتوت الرجل آتوه إتاوة، وهي الرشوة. واليتيم من لم يبلغ الحلم، وقد تقدم في البقرة مستوفى. وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء. نزلت- في قول مقاتل والكلبي- في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه، فنزلت، فقال العم: نعوذ بالله من الحوب الكبير! ورد المال. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ورجع به هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته. فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال عليه السلام: «ثبت الأجر وبقي الوزر». فقيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: «ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده» لأنه كان مشركا.
الثانية: وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين: أحدهما- إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية، إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلى والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير.
الثاني- الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والإرشاد، وتكون تسميته مجازا، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم، كقوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} أي الذين كانوا سحرة. وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتيم أبي طالب. فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ما له كله على كل حال، لأنه يصير جدا.
قلت: لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ}. قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن: لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما، فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين.
وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم؟! وهل ذلك إلا في غاية البعد؟. قال ابن العربي: وهذا باطل لا وجه له، لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة. وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة، ولا الدرهم الطيب بالزيف. وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم، ويقولون: اسم باسم ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك. هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية.
وقيل: المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم.
وقال مجاهد وأبو صالح وباذان: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعو انتظارا الرزق الحلال من عند الله.
وقال ابن زيد:
كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث. عطاء: لا تربح يتيمك الذي عندك وهو غر صغير. وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية، فإنه يقال: تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه. ومنه البدل.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} قال مجاهد: وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله: {إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ}.
وقال ابن فورك عن الحسن: تأول الناس في هذه الآية النهى عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم فخفف عنهم في آية البقرة. وقالت طائفة من المتأخرين: ان {إِلى} بمعنى مع، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ}. وأنشد القتبي:
يسدون أبواب القباب بضمر *** إلى عنن مستوثقات الأواصر
وليس بجيد.
وقال الحذاق: {إِلى} على بابها وهي تتضمن الا ضافه، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل. فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً} {إِنَّهُ} أي الأكل. {كانَ حُوباً كَبِيراً} أي إثما كبيرا، عن ابن عباس والحسن وغيرهما. يقال: حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم. وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم حوبا، لأنه يزجر عنه وبه. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أي إثمي. والحوبة أيضا الحاجة. ومنه في الدعاء: إليك أرفع حوبتي، أي حاجتي. والحوب الوحشة، ومنه قوله عليه السلام لابي أيوب: «إن طلاق أم أيوب لحوب». وفيه ثلاث لغات {حُوباً} بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز. وقرأ الحسن {حوبا} بفتح الحاء.
وقال الأخفش: وهي لغة تميم. مقاتل: لغة الحبش.
والحوب المصدر، وكذلك الحيابة. والحوب الاسم. وقرأ أبي بن كعب {حابا} على المصدر مثل القال. ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد. والحوأب بهمزة بعد الواو: المكان الواسع. والحوأب ماء أيضا. ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة، ومنه قولهم: بات بحيبة سوء. واصل الياء الواو. وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه. والتحوب أيضا التحزن. وهو أيضا الصياح الشديد، كالزجر، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر *** من الغيظ في أكبادنا والتحوب


{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)}
فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، وجوابه {فَانْكِحُوا}. أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفى النفقة عليهن {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ} أي غيرهن.
وروى الا يمه واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ما له فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. وذكر الحديث.
وقال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه، ويبيع من نفسه من غير محاباة. وللموكل النظر فيما اشترى وكيله لنفسه أو باع منها. وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك. فأما الأب فليس لاحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ، وقد مضى في البقرة القول في هذا.
وقال الضحاك والحسن وغير هما: إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام، من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرتهن الآية على أربع.
وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما: المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء و{خِفْتُمْ} من الأضداد، فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف. فقال أبو عبيدة: {خِفْتُمْ} بمعنى أيقنتم.
وقال آخرون: {خِفْتُمْ} ظننتم. قال ابن عطية: وهذا الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين. التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها. و{تُقْسِطُوا} معناه تعدلوا. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. وقسط إذا جار وظلم صاحبه. قال الله تعالى:- أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً يعني الجائرون.
وقال عليه السلام: «المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة» يعني العادلين. وقرأ ابن وثاب والنخعي {تقسطوا} بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة لا كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا.
الثانية: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} إن قيل: كيف جاءت ما للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل، فعنه أجوبة خمسة: الأول- أن من وما قد يتعاقبان، قال الله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها} أي ومن بناها.
وقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ}. فما هاهنا لمن يعقل وهن النساء، لقوله بعد ذلك {مِنَ النِّساءِ} مبينا لمبهم. وقرأ ابن أبي عبلة {من طاب} على ذكر من يعقل.
الثاني- قال البصريون: ما تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريف وكريم. فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء، أي الحلال، وما حرمه الله فليس بطيب.
وفي التنزيل: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} فأجابه موسى على وفق ما سأل، وسيأتي.
الثالث- حكى بعض الناس أن ما في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح قال. ابن عطية: وفي هذا المنزع ضعف. جواب رابع- قال الفراء: ما هاهنا مصدر.
وقال النحاس: وهذا بعيد جدا، لا يصح فانكحوا الطيبة. قال الجوهري: طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا. قال علقمة:
كأن تطيابها في الأنف مشموم ***
جواب خامس- وهو أن المراد بما هنا العقد، أي فانكحوا نكاحا طيبا. وقراءة ابن أبي عبلة ترد هذه الأقوال الثلاثة.
وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبح له الرعد. أي سبحان من سبح له الرعد. ومثله قولهم: سبحان ما سخر كن لنا. أي من سخر كن. واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف. فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك.
الثالثة: تعلق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ. وقال: إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطها عن صداق مثلها، لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا. وذهب مالك والشافعي والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر، لقوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ} والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فكذلك اسم النساء، والمرأة لا يتناول الصغيرة. وقد قال: {فِي يَتامَى النِّساءِ} والمراد به هناك اليتامى هنا، كما قالت عائشة رضي الله عنها. فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج إلا بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا بإذنها. كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قدامة: يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها، زوجتها من قد علمت فضله وقرابته. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها» فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة. قال الدارقطني: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه. ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال: فذهبت أمها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفارقها ففارقها. وقال: «ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها». فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة. فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح. وقد مضى في البقرة ذكره، فلا معنى لقولهم: إن هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله: «إلا بإذنها» فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم.
الرابعة: وفي تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل، والرد إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره، لقولها: بأدنى من سنة صداقها. فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم. وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها. أي صدقات وأكفاء. وسيل مالك عن رجل زوج ابنته غنية من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال: إني لأرى لها في ذلك متكلما. فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الام عليه.
وروى لا أرى بزيادة الألف والأول أصح. وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها، لأن الآية إنما خرجت في اليتامى. هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها.
الخامسة: فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها جاز له أن يتزوجها، ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور، وقاله من التابعين الحسن وربيعة، وهو قول الليث.
وقال زفر والشافعي:
لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها منه ولي لها هو أقعد بها منه، أو مثله في القعدد، وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا فلا. واحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل». فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب، فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين.
وفي المسألة قول ثالث، وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه. روي هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد، ذكره ابن المنذر.
السادسة: قوله تعالى: {ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} معناه ما حل لكم، عن الحسن وابن جبير وغيرهما. واكتفى بزمن يجوز نكاحه، لأن المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة {طاب} بالامالة وفي مصحف أبي {طيب} بالياء، فهذا دليل الإمالة. {مِنَ النِّساءِ} دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم. وواحد النساء نسوة، ولا واحد لنسوة من لفظه، ولكن يقال امرأة.
السابعة: قوله تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} وموضعها من الاعراب نصب على البدل من ما وهي نكرة لا تنصرف، لأنها معدولة وصفه، كذا قال أبو علي.
وقال الطبري: هي معارف، لأنها لا يدخلها الألف واللام، وهي بمنزلة عمر في التعريف، قاله الكوفي. وخطأ الزجاج هذا القول.
وقيل: لم ينصرف، لأنه معدول عن لفظه ومعناه، فآحاد معدول عن واحد واحد، ومثنى معدولة عن اثنين اثنين، وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة. وفى كل واحد منها لغتان: فعال ومفعل، يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع، وكذلك إلى معشر وعشار.
وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة: أحد وثني وثلث وربع مثل عمر وزفر. وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية.
وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب {ثلاث وربع} بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا، كما قال:
أقبل سيل جاء من عند الله *** يحرد حرد الجنة المغلة
قال الثعلبي: ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيت جاء عن الكميت:
فلم يستريثوك حتى رمي *** ت فوق الرجال خصالا عشارا
يعني طعنت عشرة.
وقال ابن الدهان: وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر بالبيت لشذوذه.
وقال أبو عمرو بن الحاجب: ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع. وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت. وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك. وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الاعداد غير المعدولة، تقول جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع، مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار. وهي في موضع الحال هنا وفي الآية، وتكون صفة، ومثال كون هذه الاعداد صفة يتبين في قوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} فهي صفة للاجنحة وهي نكرة.
وقال ساعدة بن جوية:
ولكنما أهلي بواد أنيسه *** ذئاب تبغي الناس مثنى وموحد
وأنشد الفراء:
قتلنا به من بين مثنى وموحد *** بأربعة منكم وآخر خامس
فوصف ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد، وكذلك بيت الفراء، أي قتلنا به ناسا، فلا تنصرف إذا هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة. وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة. وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة، لأنه قد زال عنه العدل.
الثامنة: اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قال من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الامة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الامة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في موطئة، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن».
وفي كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «اختر منهن أربعا».
وقال مقاتل: إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر، فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يطلق أربعا ويمسك أربعا. كذا قال: قيس بن الحارث، والصواب أن ذلك كان حارث ابن قيس الأسدي كما ذكر أبو داود. وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: أن ذلك كان حارث ابن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء. وأما ما أبيح من ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك من خصوصياته، على ما يأتي بيانه في الأحزاب. وأما قولهم: إن الواو جامعة، فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر. وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز إلا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم. وكذلك جهل الآخرين، بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد. ومثنى وثلاث ورباع بخلافها. ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة. قال الجوهري: وكذلك معدول العدد.
وقال غيره: إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار، فإنما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل، لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة. فإذا قلت جاءوني رباع وثناء فلم تحصر عدتهم. وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين. وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم. وأما اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع وهى: التاسعة: فقال مالك والشافعي: عليه الحد إن كان عالما. وبه قال أبو ثور.
وقال الزهري: يرجم إذا كان عالما، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا. وقالت طائفة: لا حد عليه في شيء من ذلك. هذا قول النعمان.
وقال يعقوب ومحمد: يحد في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح. وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة في عقدة أو تزوج متعة أو تزوج بغير شهود، أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها.
وقال أبو ثور: إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود. وفيه قول ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه: جلد مائة ولا ينفى. فهذه فتيا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف بما فوقها.
العاشرة: ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال: أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل. فقال لها: نعم الزوج زوجك. فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب. فقال له كعب الأسدي: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه. فقال عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما. فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك. قال: أفي طعام أم شراب؟ قال لا. فقالت المرأة:
يا أيها القاضي الحكيم رشده *** ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في مضجعي تعبده *** فاقض القضا كعب ولا تردده
نهاره وليله ما يرقده *** فلست في أمر النساء أحمده
فقال زوجها:
زهدني في فرشها وفي الحجل *** أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطول *** وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب:
إن لها عليك حقا يا رجل *** نصيبها في أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل ***
ثم قال: إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك. فقال عمر، والله ما أدري من أي أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة.
وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال: أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة تستعدي زوجها، فقالت: ليس لي ما للنساء، زوجي يصوم الدهر. قال: «لك يوم وله يوم، للعبادة يوم وللمرأة يوم».
الحادية عشرة: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} قال الضحاك وغيره: في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنين، {فَواحِدَةً}. فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة. وذلك دليل على وجوب ذلك، والله أعلم. وقرئت بالرفع، أي فواحدة فيها كفاية أو كافية.
وقال الكسائي: فواحدة تقنع. وقرئت بالنصب بإضمار فعل، أي فانكحوا واحدة.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} يريد الإماء. وهو عطف على {فَواحِدَةً} أي إن خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه.
وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطي ولا القسم، لا ن المعنى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} في القسم {فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة، فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطي أو في القسم. إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق. وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها. ألا ترى أنها المنفقة؟ كما قال عليه السلام: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الالية يمينا، وهي المتلقية لرايات المجد، كما قال:
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا} أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: عال الرجل يعول إذا جار ومال. ومنه قولهم: عال السهم عن الهدف مال عنه. قال ابن عمر: إنه لعائل الكيل والوزن، قال الشاعر:
قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا *** قول الرسول وعالوا في الموازين
أي جاروا.
وقال أبو طالب:
بميزان صدق لا يغل شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل
يريد غير مائل.
وقال آخر:
ثلاثة أنفس وثلاث ذود *** لقد عال الزمان على عيالي
أي جار ومال. وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة. ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}. ومنه قول الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل
وهو عائل وقوم عيلة، والعيلة والعالة الفاقة، وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي، وعال الامر اشتد وتفاقم.
وقال الشافعي: {ألا تعولوا} ألا تكثر عيالكم. قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله. وزعم ابن العربي أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال: عال مال، الثاني زاد، الثالث جار، الرابع افتقر، الخامس أثقل، حكاه ابن دريد. قالت الخنساء:
ويكفي العشيرة ما عالها ***
السادس عال قام بمئونة العيال، ومنه قوله عليه السلام: «وابدأ بمن تعول».
السابع عال غلب، ومنه عيل صبره. أي غلب. ويقال: أعال الرجل كثر عياله. وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح.
قلت: أما قول الثعلبي ما قاله غيره فقد الدارقطني في سننه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد، فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه. وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الامر اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري.
وقال الهروي في غريبيه: وقال أبو بكر: يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها.
وقال الأحمر: يقال عالني الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك. وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن الاعرابي. قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي كثر عياله.
وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة. قال الثعلبي المفسر: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير، وأنشد:
وإن الموت يأخذ كل حي *** بلا شك وإن أمشى وعالا
يعني وإن كثرت ماشيته وعياله.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا. وقرأ طلحة بن مصرف {ألا تعيلوا} وهي حجة الشافعي رضي الله عنه. قال ابن عطية: وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السراري وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال. وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة.
وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله.
الرابعة عشرة: تعلق بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا، لأن الله تعالى قال: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} يعني ما حل {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} ولم يخص عبدا من حر. وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئة، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب.
وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين، قال وهو قول الليث. فال أبو عمر: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين، وبه قال أحمد وإسحاق. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين، ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة. وهو قول الشعبي وعطاء وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد. والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده. وكل من قال حده نصف حد الحر، وطلاقه تطليقتان، وإيلاؤه شهران، ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال: تناقض في قوله: «ينكح أربعا» والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8